فصل: تفسير الآية رقم (57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (57):

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)}
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى والمشركون. فأما اليهود فقالوا عزيرا ابن الله، ويد الله مغلولة، وقالوا: إن الله فقير، وأما النصارى فقالوا: المسيح ابن الله، وثالث وثلاثة، وأما المشركون فقالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه.
وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله سبحانه وتعالى: شتمني عبدي، يقول: اتخذ لله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوًا أحد».
وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار».
وقيل: معنى {يؤذون الله} يلحدون في أسمائه وصفاته.
وقال عكرمة: هم أصحاب التصاوير.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن العلاء، أخبرنا ابن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، سمع أبا هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة».
وقال بعضهم: {يؤذون الله} أي: يؤذون أولياء الله، كقوله تعالى: {واسئل القرية} [يوسف- 82]، أي: أهل القرية.
وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وقال من أهان لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة».
ومعنى الأذى: هو مخالفة أمر الله تعالى وارتكاب معاصيه، ذكره على ما يتعارفه الناس بينهم، والله عز وجل منزه عن أن يلحقه أذى من أحد، وإيذاء الرسول، قال ابن عباس: هو أنه شج في وجهه وكسرت رباعيته. وقيل: شاعر، ساحر، معلم، مجنون.

.تفسير الآيات (58- 59):

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)}
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} من غير أن علموا ما أوجب أذاهم، وقال مجاهد: يقعون فيهم ويرمونهم بغير جرم، {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
وقال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب وذلك أن ناسا من المنافقين كانوا يؤذونه ويشتمونه.
وقيل: نزلت في شأن عائشة.
وقال الضحاك، والكلبي: نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيغمزون المرأة، فإن سكتت اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء، ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحدًا، يخرجن في درع وخمار، الحرة والأمة، فشكون ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية. ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء فقال جل ذكره: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} جمع الجلباب، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار.
وقال ابن عباس وأبو عبيدة: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوهن بالجلابيب إلا عينا واحدة ليعلم أنهن حرائر.
{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} أنهن حرائر، {فَلا يُؤْذَيْنَ} فلا يتعرض لهن، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} قال أنس: مرت بعمر بن الخطاب جارية متقنعة فعلاها بالدرة، وقال يالكاع أتتشبهين بالحرائر، ألقي القناع.

.تفسير الآيات (60- 66):

{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66)}
قوله عز وجل: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} عن نفاقهم، {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} فجور، يعني الزناة، {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} بالكذب، وذلك أن ناسًا منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقعون في الناس أنهم قتلوا وهزموا، ويقولون: قد أتاكم العدو ونحوها.
وقال الكلبي: كانوا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويفشون الأخبار.
{لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} لنحرشنك بهم ولنسلطنك عليهم، {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا} لا يساكنوك في المدينة {إِلا قَلِيلا} حتى يخرجوا منها، وقيل: لنسلنطك عليهم حتى تقتلهم وتخلي منهم المدينة. {مَلْعُونِينَ} مطرودين، نصب على الحال، {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} وجدوا وأدركوا، {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا} أي: الحكم فيهم هذا على جهة الأمر به. {سُنَّةَ اللَّهِ} أي: كسنة الله، {فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} من المنافقين والذين فعلوا مثل فعل هؤلاء، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} قوله عز وجل: {يَسْأَلُكَ النَّاس عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ} أي: أي شيء يعلمك أمر الساعة، ومتى يكون قيامها؟ أي: أنت لا تعرفه، {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُون قَرِيبًا} {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ}.
ظهرًا لبطن حين يسبحون عليها، {يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} في الدنيا.

.تفسير الآيات (67- 69):

{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)}
{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا} قرأ ابن عامر، ويعقوب: {ساداتنا} بكسر التاء والأف قبلها على جمع الجمع، وقرأ الآخرون بفتح التاء بلا ألف قبلها، {وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} أي: ضعفي عذاب غيرهم، {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} قرأ عاصم: كبيرا بالباء. قال الكلبي: أي: عذابًا كثيرًا، وقرأ الآخرون بالثاء لقوله تعالى: {أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} [البقرة – 161]، وهذا يشهد للكثرة، أي: مرة بعد مرة. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} فطهره الله مما قالوا: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} كريما ذا جاه، يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه، إذا كان ذا جاه وقدر.
قال ابن عباس: كان حظيًا عند الله لا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه.
وقال الحسن: كان مستجاب الدعوة.
وقيل: كان محببا مقبولا.
واختلفوا فيما أوذي به موسى:
فأخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا روح بن عبادة أخبرنا عوف، عن الحسن ومحمد وخلاس، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن موسى كان رجلا حييًا ستيرًا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص أو أدرة وإما آفة، وإن لله أراد أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا» فذلك قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها}.
وقال قوم: إيذاؤهم إياه أنه لما مات هارون في التيه ادعوا على موسى أنه قتله، فأمر الله الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله، فبرأه الله مما قالوا.
وقال أبو العالية: هو أن قارون استأجر مومسة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملإ فعصمها الله وبرأ موسى من ذلك، وأهلك قارون.
أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أبو الوليد، أخبرنا شعبة، عن الأعمش قال: سمعت أبا وائل قال: سمعت عبد الله قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال: «يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر».

.تفسير الآيات (70- 71):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} قال ابن عباس: صوابًا. وقال قتادة: عدلا. وقال الحسن: صدقًا. وقيل: مستقيمًا. وقال عكرمة هو: قول لا إله إلا الله. {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} قال ابن عباس: يتقبل حسناتكم. وقال مقاتل: يزك أعمالكم، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} أي: ظفر بالخير كله.

.تفسير الآية رقم (72):

{إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا (72)}
قوله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ} الآية. أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده، عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، وهذا قول ابن عباس.
وقال ابن مسعود: الأمانة: أداء الصلوات، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وصدق الحديث، وقضاء الدين، والعدل في المكيال والميزان، وأشد من هذا كله الودائع.
وقال مجاهد: الأمانة: الفرائض، وقضاء الدين.
وقال أبو العالية: ما أمروا به ونهوا عنه. وقال زيد بن أسلم: هو الصوم، والغسل من الجنابة، وما يخفى من الشرائع.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال: هذه أمانة استودعتكها، فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
وقال بعضهم: هي أمانات الناس والوفاء بالعهود، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنًا ولا معاهدًا في شيء قليل ولا كثير، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال، هذا قول ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن، فقلن: لا يا رب، نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابًا ولا عقابًا، وقلن ذلك خوفًا وخشيةً وتعظيمًا لدين الله أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة، وكان العرض عليهن تخييرًا لا إلزامًا ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها، والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل مطيعة ساجدة له كما قال جل ذكره للسموات والأرض: {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} [فصلت- 11]، وقال للحجارة: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} [البقرة- 74]، وقال تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} [الحج- 18] الآية.
وقال بعض أهل العلم: ركب الله عز وجل فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى علقن الخطاب وأجبن بما أجبن.
وقال بعضهم: المراد من العرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات والأرض، عرضها على من فيها من الملائكة.
وقيل: على أهلها كلها دون أعيانها، كقوله تعالى: {واسئل القرية} [يوسف- 82]، أي: أهل القرية. والأول أصح وهو قول العلماء.
{فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} أي: خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب، {وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ} يعني: آدم عليه السلام، فقال الله لآدم: إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال إن أحسنت جوزيت، وإن أسأت عوقبت، فتحملها آدم، وقال: بين أذني وعاتقي، قال الله تعالى: أما إذا تحملت فسأعينك، أجعل لبصرك حجابًا فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك فارخ عليه حجابه، واجعل للسانك لحيين غلقًا فإذا غشيت فأغلق، واجعل لفرجك لباسًا فلا تكشفه على ما حرمت عليك.
قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها وبين أن خرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال: مثلت الأمانة كصخرة ملقاة، ودعيت السموات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها، وقالوا: لا نطيق حملها، وجاء آدم من غير أن يدعى، وحرك الصخرة، وقال: لو أمرت بحملها لحملتها، فقلن له: احملها، فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها، وقال والله لو أردت أن أزداد لزدت، فقلن له: احملها فحملها إلى حقوه، ثم وضعها، وقال: والله لو أردت أن أزداد لزدت، فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه، فأراد أن يضعها فقال الله: مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة. {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} قال ابن عباس: ظلومًا لنفسه جهولا بأمر الله وما احتمل من الأمانة.
وقال الكلبي: ظلومًا حين عصى ربه، جهولا لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة. وقال مقاتل: ظلومًا لنفسه جهولا بعاقبة ما تحمل.
وذكر الزجاج وغيره من أهل المعاني، في قوله وحملها الإنسان قولان، فقالوا: إن الله ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السموات والأرض والجبال على شيء، فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا في الطاعة والقيام بالفرائض، والأمانة في حق السموات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له. وقيل: قوله: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} أي: أدين الأمانة، يقال: فلان لم يتحمل الأمانة أي: لم يخن فيها وحملها الإنسان أي: خان فيها، يقال: فلان حمل الأمانة أي: أثم فيها بالخيانة.
قال الله تعالى: {وليحملن أثقالهم} [العنكبوت- 13]، إنه كان ظلومًا جهولا. حكى عن الحسن على هذا التأويل: أنّه قال وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق، حملا الأمانة أي: خانا. وقول السلف ما ذكرنا.
{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)}.
قوله عز وجل: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} قال: مقاتل: ليعذبهم بما خانوا الأمانة ونقضوا الميثاق، {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة.
وقال ابن قتيبة: أي: عرضنا الأمانة ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله، ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه، أي: يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات.